التاريخ اﻹسلامي

حياة عبد الرحمن ابن خلدون ونشأته

ابن خلدون، العبقري العربي المتميز، يُعتبر شخصية بارزة بفضل مساهماته الواسعة في مجالات متعددة.

كان عالمًا موسوعيًا يتقن مختلف العلوم والمعارف، وقد كان رائدًا مجددًا في العديد من العلوم والفنون، فهو أول من وضع أسس علم الاجتماع، وكان إمامًا ومجددًا في علم التاريخ، بالإضافة إلى أنه كان من رواد فن “الأتوبيوجرافيا”، أي فن الترجمة الذاتية.

عبد الرحمن ابن خلدون

برز ابن خلدون في علم الحديث وكان من الفقهاء المعتبرين في المذهب المالكي، وأحد رواد التجديد في مجال الدراسات التربوية وعلم النفس التربوي والتعليمي، مساهمًا أيضًا بشكل مميز في تطوير أساليب الكتابة العربية.

  • وليُّ الدين عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الخضرمي، المعروف بأبي زيد، ذكر نسبه قائلاً: “لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هؤلاء العشرة”، ويتصل نسبه بالصحابي وائل بن حجر، الذي استقبله النبي – صلى الله عليه وسلم – بحفاوة ودعا له.
  • اختلف العلماء حول أصل ابن خلدون، فهناك من يرى أنه عربي الأصل، كالمفكر ساطع الحصري، بينما يرى آخرون مثل طه حسين ومحمد عبد الله عنان أنه من أصول أمازيغية.
  • ولكن لا جدال في أصالة نسبه وعلو شأن عائلته، التي استقرت في الأندلس وتولّت مناصب رفيعة، ما بين الرئاسة العلمية والسياسية.
  • ابن خلدون جمع بين هاتين الرئاستين، وكان واليًا على قضاء المالكية في مصر، وقد عُرف بالزهد والابتعاد عن السياسة في أواخر حياته، حيث كان يميل إلى مجالسة العلماء.

نشأه ابن خلدون

  • وُلد “ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي” في تونس بتاريخ غرة رمضان 732هـ، الموافق لـ 27 مايو 1332م، ونشأ في عائلة ذات مكانة علمية مرموقة وتاريخ طويل من المجد.
  • في سن مبكرة من طفولته، أتم حفظ القرآن الكريم، وكان والده أول معلميه وموجهه الأول في العلم.
  • بالإضافة إلى ذلك، تلقى تعليمه على يد نخبة من علماء الأندلس الذين نزحوا إلى تونس بعد الأحداث التي عصفت بها، ما أتاح له دراسة مجموعة واسعة من العلوم.
  • ابن خلدون درس القراءات وعلوم التفسير والحديث والفقه المالكي، بالإضافة إلى الأصول وعلم التوحيد، كما تعمق في علوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وأدب، إلى جانب دراسته لعلوم المنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضيات.
  • وقد أظهر تفوقًا ملحوظًا في كل هذه المجالات، مما جعله موضع إعجاب أساتذته وشيوخه.
  • من بين هؤلاء الأساتذة الذين تركوا بصماتهم على تكوينه العلمي: محمد بن عبد المهيمن الحضرمي، محمد بن سعد بن برال الأنصاري، محمد بن الشواشي الزرزالي، محمد بن العربي الحصايري، أحمد بن القصار، محمد بن جابر القيسي، محمد بن سليمان الشظي، محمد بن إبراهيم الآبلي، عبد الله بن يوسف المالقي، أحمد الزواوي، ومحمد بن عبد السلام.
  • أثر بعض هؤلاء الشيوخ بعمق في تفكيره وتوجهاته العلمية، ولا سيما محمد بن عبد المهيمن الحضرمي، الذي كان إمامًا للمحدثين والنحاة في المغرب، ومحمد بن إبراهيم الآبلي الذي درسه علوم الفلسفة والمنطق والعلوم الطبيعية والرياضيات.

حياته السياسية ابن خلدون في تونس

بعد أن عيّن ابن تافراكين ابن خلدون في أول مهمة رسمية له ككاتب العلامة في المراسيم ومخاطب السلاطين، خرج مع السلطان أبو إسحاق لملاقاة الأمير أبي زيد صاحب قسنطينة.

  • ولكن الجيش السلطاني هُزم، مما دفع ابن خلدون للسفر إلى المغرب حيث طلب المساعدة من السلطان أبي عنان صاحب تلمسان.
  • استقبله السلطان بحفاوة، قدّم له الحماية، ودعاه لحضور مجالس العلم، وألزمه بشهود الصلوات معه.

ابن خلدون في المغرب

تولّى ابن خلدون عدة مناصب، بدأ بكتابة العلامة عن السلطان أبي عنان عام 775هـ، ولكن لم يستمر في هذا المنصب طويلاً بسبب سجنه عام 756هـ بتهمة مساعدة الأمير محمد في استعادة ملكه.

  • بعد عامين في السجن، كتب ابن خلدون قصيدة استعطاف للسلطان، لكن السلطان توفي قبل الإفراج عنه.
  • عام 760هـ، كلفه السلطان أبو سالم بالكتابة في السر والإنشاء بفضل مهاراته العلمية والأدبية.
  • كما تولى خطة المظالم، حيث عمل كقاضٍ بين الناس، وحرص على تحقيق العدالة.
  • ثم عمل حاجبًا لدى السلطان بن أبي عبد الله في بجاية، وهو منصب يتطلب العلم والحنكة السياسية، وقد أثبت كفاءته.
  • كما عمل ابن خلدون حاجبًا لصاحب قسنطينة بقرار من السلطان أبي العباس بعد مساعدة ابن خلدون له في استعادة ملكه، لكنه لم يستمر طويلاً.
  • كذلك، شغل منصب السفير للسلطان عبد العزيز لتعزيز العلاقات مع أهل بلاد ريّاح، وأيضًا للسلطان أبي حمو في منطقة الدوادة.

ابن خلدون في الأندلس

طلب منه السلطان أبو عبد الله بن الأحمر الذهاب إلى ملك قشتالة عام 765هـ لعقد صلح بينهما.

استقبله ملك قشتالة بحفاوة وعرض عليه البقاء وإعادة ملك أجداده، لكن ابن خلدون رفض وعاد إلى ابن الأحمر بمهمة الصلح الناجحة.

ابن خلدون في مصر

شغل ابن خلدون عدة مناصب في مصر، منها:

  • قضاء المالكية: تولى منصب قاضي المالكية لأول مرة عام 786هـ بتكليف من الملك الظاهر برقوق نظرًا لخبرته ومعارفه، ثم أعيد تعيينه في نفس المنصب عام 801هـ، ومرة أخرى بأمر السلطان فرج عام 803هـ، ثم في عام 804هـ، وأخيرًا عام 807هـ، لكنها كانت لفترة قصيرة بسبب وفاته.
  • التدريس: عمل مدرسًا في عدة أماكن، بدءًا من جامع الأزهر، ثم انتقل إلى مدرسة القمحية بناءً على أمر من صلاح الدين، ودرّس أيضًا في مدرسة الظاهرية أو البرقوقية، كما قام بتدريس الحديث في مدرسة صرغتمش عام 791هـ.
  • ولاية خانقاه بيبرس: تولى هذا المنصب بعد عودته من الحج عام 790هـ بناءً على طلب السلطان الظاهر، خلفًا لشرف الدين الأشقر.

مراحل حياه عبد الرحمن ابن خلدون وفقاً للعلماء

قسّم علماء التاريخ حياة ابن خلدون إلى أربع مراحل رئيسية:

  • المرحلة الأولى (732هـ – 751هـ)

تمثل أول عشرين عامًا من حياة ابن خلدون، والتي قضاها في مدينة تونس خلال هذه الفترة، ركز على جمع العلم وحفظ القرآن الكريم، حيث استغرق حفظه خمسة عشر عامًا.

كما تعلّم القراءات وأحكام التجويد، مما جعل هذه المرحلة مرحلة تأسيسية في تعليمه.

  • المرحلة الثانية (751هـ – 776هـ)

امتدت هذه المرحلة لمدة خمسة وعشرين عامًا، حيث بدأ ابن خلدون حياته المهنية في السياسة والدواوين.

تولى عدة مناصب في المغرب، تونس، والجزائر، حيث لعب دورًا بارزًا في الشؤون السياسية والإدارية خلال هذه الفترة.

  • المرحلة الثالثة (776هـ – 784هـ)

في هذه المرحلة كتب ابن خلدون كتابه الشهير “العبر وديوان المبتدأ والخبر”، والذي يحتوي على “المقدمة” الشهيرة في الجزء الأول.

يمكن تقسيم هذه المرحلة إلى قسمين: الأولى قضاها في عزلة في قلعة ابن سلامة، حيث بدأ بكتابة “المقدمة”، والثانية في القاهرة، حيث واصل أعماله.

  • المرحلة الرابعة (784هـ – 808هـ)

استمرت هذه المرحلة لمدة أربعة وعشرين عامًا، وهي المرحلة التي استقر فيها ابن خلدون في مصر.

تميزت هذه الفترة بانخراطه في وظائف التدريس والقضاء، حيث شغل منصب قاضي المالكية وقام بالتدريس في عدة مدارس وجوامع في القاهرة، حتى وفاته عام 808هـ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى