عبد الرحمن ابن خلدون الذي يعد من أهم العقول التي أنجبتها الحضارة العربية الإسلامية، والذي يحظى بمكانة علمية مرموقة، ينسب إليه تأسيس علم الاجتماع وتفرده بقراءة التاريخ، وصياغة نظريات تفسر مساره مستلهما إياها من مسار حياته وعيشه متنقلا بين عدد من البلاد، وماتزال نظرياته تدرس في زماننا ويحلل بها واقعنا.
من هو ابن خلدون
ولد عبد الرحمن بن خلدون الملقب بولي الدين بتونس، وقضى طفولته في منزل والده الذي كان بيت علم ينتمي لأسرة عربية من أصول يمنية نزحت من إشبيلية تزامنا مع سقوط مدن الأندلس. نشأ في بيت سياسة، حيث شغلت أسرته مناصب سياسية ودينية مهمة، لكن والده انقطع عن الحياة السياسية وزهد فيها، وانصرف إلى التعليم محتفظا بمكانة اجتماعية مرموقة.
بدأ ابن خلدون دراسته مبكرا استهلها على يد والده ثم أساتذة تونس أنذاك، تفتح فكره في كنف علماء من أبرزهم أبو عبد الله عمر بن إبراهيم الابلي الذي تحدث عنه بإعجاب وتقدير، ثم استكمل تحصيله العلمي في جامع الزيتونة. انفرد ولي الدين عن محيطه، وهو الذي عاش في عصر كانت فيه شمس الحضارة الإسلامية أخذة في الأفول. أصبح التقهقر حقيقة مع توالي كوارث عديدة على العالم الإسلامي، منها هجمات التتار، وتراجع حكم المسلمين في الأندلس، والحروب بين الحكام، والفتن التي استفحلت بين الولاة والأمراء، ثم انتشار الطاعون الذي حمل البلاء إلى مناطق مختلفة.
شرع ابـن خلـدون في التأليف مبكرا، لكن كتابه الأشهر والذي جاء في سبعة مجلدات منها المقدمة احتل مكانة محورية، وعالج الظواهر الاجتماعية التي أطلق عليها واقعات العمران البشري، كما تعرض لمختلف الحضارات والممالك والقوى السياسية، وتحدث عن المدن والقرى والفنون والعلوم، وحلل من خلالها مختلف الظواهر التي تسهم في البناء المتشابك للمجتمع الإنساني.
أسس ابن خلدون نظرية تظهر التكامل بين ما هو روحي وما هو مادي، شارحا ما تقتضيه طبائع العمران وما تقرره المشيئة الإلهية، كما حاول أن يخضع مجموع الظواهر العمرانية للعقل والدراسة والتفسير، حيث اعتبر أن للدول أعمارا طبيعية كالبشر، وهي محددة بثلاثة أجيال تبدأ بجيل البناء والعناية الذي شهد البداوة وخشونة العيش حتى جيل الاستبداد بالحكم الذي يعيش في راحة ونعيم. والترف الذي تنتجه الحضارة في رأيه هو نهاية العمران وأول علامات السقوط.
تحدث ابن خلدون عن الحكام وطبيعة حكمهم وإدارتهم، واعتبر أن انفراد الحكام بالمجد وحصول الترف، ودعا يذهب بالدولة إلى الشيخوخة.
حياته السياسية والوظائف التي تسلّمها
يرى باحثون أن ابن خلدون استلهم كثيرا من تجاربه في دهاليز السياسة، ورأته بعض الدراسات رجلا تستهويه المناصب الرفيعة ويستبد به الطموح السياسي رغم وجود انتقادات لهذه الرؤية، لكن الثابت أن نمن خلـدون أمضى أعواما في قصور الملوك والأمراء والولاة، فتعرف على أسلوب الحضارة وحياة الترف، واحتك احتكاكا مباشرا بالنخبة الحاكمة.
شغل منصبا في بلاط تونس، وكان موظفا لدى سلطان المغرب في فاس، وسفيرا ومبعوثا إلى إمارات الأندلس، وعمل حاجبا لدى أمير بجاية، كما تبوأ لسنوات منصب قاضي قضاة المالكية في مصر.
العمران عند ابن خلدون
أمضى ابـن خلـدون أعواما بين أحضان العمران البدوي، فشهد طباع البدو وأسلوب حياتهم، ولاحظ البون الشاسع بين حياة العواصم وحياة أهل البادية، حتى توصل إلى نظريته القائلة إن العمران البدوي أصل للعمران الحضري، واستعمل مصطلحي خشونة البداوة ورقة الحضارة.
ابن خلدون في مصر
لاحقت ابن خلدون المؤامرات والدسائس أكثر من مرة حتى غادر تونس وبلاد المغرب إلى مصر بهدف الاستقرار، وعاش تحت حكم السلطان برقوق الذي سماه قاضي قضاة المذهب المالكي، وكانت له حلقة علمية بالجامع الأزهر.
من أبرز محطات حياة ابـن خلدون في المشرق مقابلته للملك المغولي تيمورلنك الذي غزا أجزاء من العالم الإسلامي، وطلب منه وصفا تفصيليا مستفيضا لشمال أفريقيا.
ماذا كتب ابن خلدون في مقدمته؟
“المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”
الغرب وابن خلدون
ظلت نظريات ابـن خلـدون وإسهاماته الفكرية محل اهتمام باحثين غربيين كانوا من بين من قدموا إرثه وترجمه إلى لغات عديدة، حتى إن المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي قال عن ابـن خلدون إنه أدرك وتصور وأنشأ فلسفة التاريخ، واعتبر مقدمته أعظم عمل من نوعه أبدعه أي عقل في أي زمان ومكان.
كما يتكرر الاهتمام بإسهامات ابـن خلدون تزامنا مع الأحداث التي تعيشها المنطقة، تحديدا فيما يتعلق بالدول ومساراتها. مفهوم العصبية الذي اتخذه ابن خلدون مفتاحا لحل جميع المشكلات التي يطرحها سير أحداث التاريخ الإسلامي.
متى توفي عبد الرحمن بن خلدون
توفي ابن خلدون في القاهرة ودفن فيها. وما يزال الباحثون يعودون إلى نظرياته لتفسير أوضاعنا السياسية والاجتماعية.
